أحدثَ "مشروع كلمة" الإماراتي نقلةً نوعيةً في الترجمة من الإيطالية إلى العربية، بما رفد به المكتبة العربية من أعمال قيّمة من المنتوج الثقافي الإيطالي، تناهز الخمسين عملا في ظرف لا يتعدّى بضع سنوات. ورغم أن تدريس الإيطالية وآدابها حاضرٌ في جامعات تونس ومصر والمغرب والأردن والسعودية وغيرها، وأن تجارب بعضها يزيد عن نصف قرن، مع ذلك تبقى حلقة الترجمة فيها الأضعف والأوهن. لا يعود ذلك إلى تدنّي الإمكانيات، كما يقال عادة، بل إلى تراجع فاضح للعربية في أوساط الدارسين للغات الأجنبية ومنها الإيطالية، ولأن الدرس الأكاديمي في الترجمة فيه كثيرٌ من اللّغو وقليل من الفعل، يترك الدارس تائها بين أسئلة: ماذا نترجم؟ وكيف نترجم؟ ولماذا نترجم؟ وهلمّ جرا من ضروب الخطل.
كتاب "إمبراطورية التفويض السماوي" المترجَم من الإيطالية والصادر أخيرا عن "مشروع كلمة"، يأتي ضمن ذلك الخيار الواعي الذي انتهجه القائمون على هذه المبادرة. فرغم الأهمية الكبيرة والمتنامية التي باتت تحتلها الصين في التاريخ العالمي للقرن الواحد والعشرين، وفي المشهد الدولي الراهن، إلا أن مكتبتنا العربية لا تزال تفتقر إلى أعمال رصينة تتناول بالبحث والتمحيص الحضارة الصينية، ولا سيّما خلال الفترة ما قبل الحديثة والمعاصرة. ففي الواقع، لا سبيل لفهم الصين المعاصرة سواء كان هذا على مستوى البعد الجغرافي-السياسي، أو على مستوى القوة الاقتصادية، أو على مستوى الهوية الاجتماعية والثقافية بمعزل عن تاريخ الإمبراطورية الصينية. من هذا المنطلق كان الحرص على ترجمة كتاب "إمبراطورية التفويض السماوي: الصين بين القرنين الرابع عشر والتاسع عشر" لمؤلفه «باولو سانتانجيلو»، أستاذ تاريخ شرق آسيا في جامعة روما الإيطالية، وأحد أهم الباحثين الإيطاليين المتخصّصين في الدراسات الصينية. وقد أعد الترجمة الدكتور ناصر إسماعيل وراجعها الأستاذ بجامعة روما عزالدين عناية.
يتناول العمل في ثلاثة عشر فصلا كافة مظاهر الحياة والمجتمع في الإمبراطورية الصينية، في الفترة المتراوحة ما بين القرنين الرابع عشر والتاسع عشر خلال حكم سلالتي مينغ وتشينغ. فيعرض أولا لتاريخ العلاقات الصينية الأوروبية منذ إرهاصاتها الأولى في القرن السادس عشر، وتطور هذه العلاقات من خلال مقاربة تتجاوز النزعة المركزية الأوروبية التقليدية التي دأبت على التعاطى مع التاريخ الصيني وفق قوالب نمطية استشراقية قديمة. ينتقل بعدها المؤلف إلى تسليط الضوء على تنظيم السلطة الإمبراطورية في تلك الفترة، وعلى علاقاتها مع الشعوب التابعة والمجاورة لها، وتقديم شرح مفصل للحياة الاقتصادية والاجتماعية والفكرية وتطورها مع التركيز على تحليل العوامل التي ساقت إلى خسارة الصين لتفوقها العلمي والثقافي، وإلى اضمحلال الإمبراطورية أمام الضغوط الغربية واليابانية في القرن التاسع عشر.
كرّس الكاتب بعض الفصول لتناول التقسيم الطبقي والهرمي للمجتمع الصيني مُبرزا دور البيروقراطية الصينية والمرأة والعشيرة والتنظيمات النقابية في حياة الصينيين، إبان حكم سلالتي مينغ وتشينغ. وركّزت الفصول الختامية على الجوانب الدينية والفكرية للإمبراطورية الصينية، وعلى المؤسسات الثقافية والمدارس الفكرية والأدبية التي بلغت قدرا مدهشا من التطور في تلك الفترة، وساهمت مساهمةً رئيسةً في إثراء الحياة الثقافية والسياسية. ختاما تعود أهمية هذا العمل إلى محاولته الجادة والحثيثة لإعادة النظر في التصورات والأحكام الشائعة عن الحضارة الصينية استنادا إلى رؤية شاملة ومتعددة الأقطاب لكافة مظاهر هذه الحضارة.
مؤلف العمل هو «باولو سانتانجيلو» أستاذ تاريخ شرق آسيا والدراسات الصينية في جامعة روما الإيطالية "لاسابيينسا"، والمشرف على بعض الدوريات العلمية الهامة والمتخصصة في الدراسات الصينية والآسيوية على غرار «Ming Qing Studies» و«Studies Bulletin of Portuguese Japanese»، علاوة على نشره للعشرات من الأبحاث والدراسات العلمية في العديد من الدوريات الأكاديمية الدولية. من مؤلفاته الأخرى في هذا الشأن «العواطف في الصين الإمبراطورية» (1997)، و «مشاعر الحب في الصين من خلال بعض الأعمال الأدبية» (1999)، و «تاريخ الصين» (2005)، و«تاريخ الفكر الصيني» (2012).
مترجم الكتاب ناصر إسماعيل، باحث أكاديمي مصري بجامعة جنوة الإيطالية، سبق أن ترجم كتاب "الفكر الجمهوري"، وروايتي "الإقالة من الحياة" و"حكاية الدهّان". ومراجع الكتاب عزالدين عناية، جامعي تونسي يدرّس بجامعة روما، يشرف على نخبة من المترجمين لنقل المنتوج الثقافي الإيطالي إلى العربية.